===============
“دردكو، دردكو، المفتش جاي، وجبد الريح…” هكذا صاح صديقي المعلم بأعلى صوته عندما رصد المفتش قادما على متن سيارة النيابة السوداء،
لينطلق التلاميذ كالخرفان صوب الخنادق والحفر، إذا رأيتهم حسبتهم جنودا
يتفادون القنابل والصواريخ. اختبأ صديقي كمال داخل “الميكروصاطيليط” قائلا
لي: “إذا سأل عني أخبره أني ذهبت إلى مستوصف الفيلاج، قل إنني مريض
بأنفلونزا الطيور أو الخنازير، قل أي شيء فأنا لا أتوفر على أية وثيقة”،
وأقفل الباب بقوة واختبأ.
توقفت السيارة وسط الساحة، نزل منها رجل
طويل، أنيق، يرتدي بذلة سوداء، أبصرت وجهي الملتحي في حذائه البراق، يدخن
سيجارة من النوع الممتاز. قال لتلاميذي الذين تجمهروا أمام باب القسم كما
يفعلون عندما يبصرون طائرة تحلق في الأجواء: “أنطري سيلفوبلي..”، لم يحركوا
ساكنا حتى خاطبهم الكابتن خميس: “ملادسمعوشي الأزذاد قالكم إنطريز..”،
كانت الملاحظة الأولى هي عدم القدرة على ضبط القسم إضافة إلى تدريسي بسروال
النوم الرياضي، فالسكنى محاذية للقسم في جزيرة واقواق، هل أدرس بجلباب
أبيض وطربوش أحمر وبلغة صفراء؟ طبعا لم أحدثه بما جال في خاطري فكل شيء
واضح وضوح الشمس في كبد السماء، إذا هطل المطر تقرع رؤوسنا بقطرات
“الكوتاكوت”، حفر عميقة وعديدة تزين أرضيته، طاولات مهترئة بالية، الكرسي
الوحيد الذي أتوفر عليه مفبرك من خشب الغابة، أجمل ما في القسم هو السبورة
الوسطى المملوءة ثقوبا وأخاديد، أما جناحاها فقد صنعت بهما بابا سميكا
للسكن الوظيفي يقيني هجوم الخنازير التي يحلو لها التسكع بعد منتصف الليل.
في الحقيقة تعاملت مع المفتش كابن له، فقد كان متفهما للغاية، نصائحه أبوية
بامتياز، ثم دعا لي بالتوفيق ورحل، وتركني مع سروالي العجيب الذي فقد لونه
الأصلي لكثرة مسحه بالطباشير والزيت وتوابل الطجين.
خرج صديقي
مزهوا بنصره على الوزارة، لازالت آثار حمرة “البي إم” على شفتيه المتيبسة،
عيناه متسمرتان على سيارة النيابة السوداء التي شقت طريقها نحو المركزية،
خاطبني قائلا: “كيف كانت الأجواء؟” قلت له: “بألف خير، لم أعد متدربا بعد
الآن فقد ترسمت”. ثار وغضب وصرخ في وجهي: “لماذا لم تخبرني؟” أجبته ببرودة:
“لأنك كنت في مستوصف الفيلاج”.