لعلَّ أولَ ما يتبادرُ إلى الأذهانِ أن هذا البحثَ ليس جديدًا، وهذا صحيحٌ، ولكن العلمَ والفكرَ لا يَعْرِفانِ الكلمةَ الأخيرةَ، وليس هذا البحثُ نظريًّا صِرْفًا، كما قد يُتوَهَّم، ولكنه ذو نتائجَ عمليةٍ مهمةٍ وواسعةٍ، فله: تجلِّياتٌ اجتماعيَّة، وسياسيَّة راهنةٌ، كما أنه يُلقِي ظلالاً على التعاطي مع الأحكامِ الشرعيَّة العمليَّة.
ومن الناحيةِ النظريةِ اختَلَفت المذاهبُ الفلسفيَّة في أسبقيةِ الفكر أو الواقع:
فمنها ما ذَهَب إلى أسبقيةِ الواقعِ والمادَّة، وعَدَّ الفكرَ انعكاسًا لهما، وهي الماركسِيَّة.
ومن المذاهب ما رأى أن الوجودَ الحقيقيَّ هو للفكرِ، وأنه لا وجودَ مستقلاًّ للواقعِ، دون الفكرِ، وهي المثالية.
أما الماركسيةُ، فقد قام منظِّروها بتطبيقِ القوانينِ العلميةِ، التي تَحْكُم سيرَ المادَّة وتحوُّلاتها من تغيُّراتٍ كمية إلى تغيُّراتٍ نوعية على الحياة الاجتماعيَّة، وتطوُّر المجتمعات.
ونتجَ عن قياسِ الحياةِ الاجتماعيةِ على المادَّة "أن حياةَ المجتمعِ الماديَّةَ، أو موجودَ المجتمعِ هو أيضًا العنصر الأول، أما حياةُ المجتمعِ العقليَّةُ، فهي عنصرٌ ثانٍ مشتقٌّ، وأن حياةَ المجتمعِ المادِّيةَ هي موضوعي موجودٌ بصورةٍ مستقلَّة عن إرادةِ الإنسانِ، أما حياةُ المجتمعِ العقليَّةُ، فهي انعكاسُ هذا الواقعِ الموضوعي، أو انعكاسُ الموجودِ، وبالتالي يَجِبُ البحثُ عن منشأ حياةِ المجتمع العقلية، وعن أصل الأفكار الاجتماعيَّة، والنظريَّات الاجتماعيَّة، والآراءِ السياسيَّة، والأوضاع السياسيَّة، لا في الأفكارِ والنظرياتِ، ولا في الآراءِ والأوضاعِ السياسيَّة بنفسِها، بل في شروطِ الحياةِ الماديَّة للمجتمعِ، في الموجودِ الاجتماعي الذي تكوِّن هذه الأفكارُ والنظرياتُ والآراءُ، وما إليها انعكاسًا له" [1]
وهذا خطأٌ في القياسِ؛ بسببِ اختلافِ واقعِ المادَّة عن واقعِ الإنسانِ العاقلِ المميِّز ذي الإرادةِ الفاعلةِ، والمعقَّد التركيبِ، وهذا التعاملُ مع الإنسانِ أَفضَى إلى إفقادِه قدرًا كبيرًا من أهميتِه الفرديَّة، وفاعليَّة إرادتِه، لا من حيث تقليلُهم من أهميةِ الأفكارِ والآراءِ والنظرياتِ في إحداث التأثيرِ الاجتماعي، ولكن من حيث جعلُهم تلك الآراءَ والأفكارَ انعكاسًا ماديًّا للواقع؛ فأين الدورُ الخلاَّق، والمبدِع للعقل الإنساني؟!
وفوق ذلك، فإن المحسوسَ في عملية التفكير، أنها تحتاجُ إلى معلوماتٍ، ولو أوَّليَّةً، عن الموضوعِ الذي يُفَكَّرُ فيه، وأنه لا يُتوصَّل إلى الحقِّ - في حال انعدام المعلومات - إلا مصادفةً، ومثلُ هذه المصادفةِ - لو حصلتْ - لا يُعوَّلُ عليها، في البحث العلمي، ولا في التفكير الحقِّ.
وأما تأثُّر التفكيرِ بالواقع الاقتصادي، وعَلاقات الإنتاج وأدواته - كما تزعم الماديةُ الديالكتيكية الماركسية - فليس تأثيرًا تامًّا وصارمًا؛ لوجودِ نتاجاتٍ فكريَّة متباينةٍ تحت عَلاقاتٍ إنتاجيةٍ واحدةٍ.
فثَمَّة عواملُ تفكيريةٌ أكثرُ تعقيدًا من مجرَّد "انعكاس المادَّة"، أو الواقعِ على التفكير، فهل نَملِك أن نَلغِيَ المؤثِّراتِ الفطريةَ التي قد تتسرَّب إلى التفكير؟ وهي متفاوتةٌ بين إنسانٍ وآخرَ، وهي مع اتحادِها في أصلِها بين بَنِي الإنسان، إلا أن الأفراد َيتَبايَنون في تفعيلِ بعضِها، وتعطيل الآخر.
وأما المثاليةُ، ففيها مدرستانِ: قديمةٌ يمثِّلها أفلاطون، وحديثةٌ يمثِّلها "كَانْت"، "وكلتاهما لا تُرِيدُ أن تكونَ مذهبًا وجوديًّا، يَقنَع بملاحظةِ ما هو كائنٌ وحاصلٌ، ويَقتَصِر على وصفِ الأشياءِ - كما تبدو للناظر - بل كلتاهما مذهبٌ إنشائيٌّ يرسم الأشياءَ - بحسب ما حقُّه أن يكونَ - ويريد أن يصلَ إلى جوهرِها وأصلِها.
ومن وجهةِ النظرِ هذه لا تستطيعُ المثاليةُ أن تَقبَلَ أن يكونَ "للأشياء" وجودٌ في ذاتها، مستقلٌّ عن الفكرِ؛ لأن ما هو خارج الفكر لا يُمكِن أن يكون متعقلاً، وبالتالي لا يكون شيئًا، وإذًا فلا شيءَ هناك سوى الأفكارِ" [2].
فالمثاليَّةُ تَرَى أن الأشياءَ ليست موجودةً بذاتِها وجودًا مستقلاًّ عن القوَّة المتعقلةِ التي تُدرِكُها، وأن شعورَنا وحدَه هو الموجودُ واقعيًّا، وأن العالَمَ المادِّي والكائنَ والطبيعةَ، لا تُوجَد إلا في إدراكِنا وإحساساتِنا وتخيلاتِنا وتصوراتِنا.
هذه النظرةُ تتجاهَل الواقعَ، مع أنه في كثيرٍ من الحالات سابقٌ للوجودِ الإنساني، فسواءٌ أدَرَكَه الإنسانُ، أم لم يُدرِكْه، هو موجودٌ ومتحقِّق، مع تفريقٍ بين الوقائع الجامدةِ، كالسموات والأرض، والمخلوقات المتحرِّكة ذاتيًّا، كالحيوانات مثلاً، وبين ما يُمكِن أن نسمِّيَه وقائعَ اجتماعيَّةً يُحْدِثُها الإنسانُ ويَصُوغُها، فهذا النوع الأخير من الوقائعِ يكُونُ صورةً عن الفكرِ الذي أحدثه، وهو تجسيدٌ له، لكنه قد يكونُ تجسيدًا لفكرِ أناسٍ سابقين، كالتقاليد الاجتماعية مثلاً.
ومهما يكن، فنحن لا نَستَطِيع أن نتجاوَز الواقعَ في التفكيرِ، فهو مَحَلُّ تَنَزُّلِ الفكر- وهو بتَبَايُنَاتِه وتغيُّراته - محلُّ النظرِ والمعالجةِ أو التَّرْقِية؛ فلا يَنبَغِي بحالٍ من الأحوالِ أن نُدِيرَ للواقعِ ظهورَنا؛ فلا بدَّ من فهمِ الواقع أولاً، وفهمِه كما هو بدقَّة متناهية، علميًّا كان البحث أم اجتماعيًّا أم فقهيًّا.
وفي المجالاتِ الاجتماعيَّة الإصلاحيَّة من الضروريِّ فهمُ المرحلةِ التي وصَل إليها الواقعُ، حتى نبدأَ منها، ونبنِيَ إليها، إن كانت تصلحُ للبناءِ، أو حتى نشرعَ في هدمِها هي، لا غيرها، إذا كانت تَستَوجِب الهدمَ؛ فالعلاقة بين الفكر والواقع علاقةٌ عضوية تفاعلية، ذلك أن الفكر الذي يستحق هذا الاسم، لا يَتنَزَّل على: فراغٍ، أو خيالٍ، أو خرافةٍ، وإنما يكونُ حكمًا على واقعٍ، ولكن الواقعَ لا يستحيلُ فكرًا بالانعكاسِ، فليس هو مرآةً عاكسةً، وإنما يستعملُ العاقلُ ما صحَّ عنده، من معلوماتٍ متعلقة بالواقعٍ، ويُجرِي العمليةَ التفكيريَّة بعد نقلِ إحساسه بالواقعِ إلى دماغه الذي يحلِّل، أو يفسِّر، أو يبتكر حلاًّ؛ تبعًا للعمليَّة العقلية المناسبة، والثمرة المرجوَّة.
بعض تجلِّيات العَلاقة بين الفكر والواقع:
هذه لعلَّها أهمُّ القواعدِ الفلسفيَّة التي تفرَّعت منها الآراءُ، أو تأثَّرت بها، عند المفكِّرين الغربيينَ وبعضِ العرب، حول أسبقيَّة الفكرِ، أو الواقعِ.
وأما تجليَّات هذا البحثِ في الحياة، فتُظهِرُ تغليبًا للواقعِ على الفكر، فليس من الصعوبةِ أن نقعَ على تَمَظْهُرات هذا الخضوع للواقع، فيما يسمَّى بالواقعية السياسيَّة، وفي "البراغماتية"، وفي المجال الفقهي: تحكيم الواقعُ، والقبول به؛ تحقيقًا للمصالح الشخصية.